للشيخ العلامة
صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء
- حفظه الله ونفعنا بعلمه -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين،
وبعد: فلا يخفى ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر بإتباع ما شرعه الله ورسوله، والنهي عن الإبتداع في الدين، قال تعالى: " قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ " آل عمران: 31، وقال - تعالى -: " اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ " الأعراف: 3، وقال - تعالى -: "وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ " الأنعام: 153، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أصدَقَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها "، وقال صلى الله عليه وسلم: " مَن أَحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، وفي رواية لمسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ".
وإن مِن جُملة ما أَحدَثَهُ الناس من البدع المنكرة "الإحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول"؛ وهم في هذا الإحتفال على أنواع:
فمنهم من يجعله مُجرد اجتماع تُقرأ فيه قِصة المولد، أو تُقدَّم فيه خُطب وقصائد في هذه المناسبة.
ومنهم مَن يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك ويقدمه لمن حَضَر
ومنهم مَن يُقيمُهُ في المساجد
ومنهم مَن يقيمه في البيوت
ومنهم من لا يقتصر على ما ذكر، فيجعل هذا الإجتماع مشتملاً على محرمات ومنكرات من اختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء، أو أعمال شركية كالإستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وندائه والإستنصار به على الأعداء وغير ذلك.
وهو بجميع أنواعه واختلاف أشكاله واختلاف مقاصد فاعليه لا شك ولا ريب أنه بدعة محرمة محدثة بعد القرون المفضلة بأزمان طويلة.
فأول من أحدثه الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع الهجري، كما ذكره المؤرخون كابن كثير وابن خلكان وغيرهما.
وقال أبو شامة: وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره.
قال الحافظ ابن كثير في "البداية" (13/137) في ترجمة أبي سعيد كوكبوري: (وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به إحتفالاً هائلاً... إلى أن قال: قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى... إلى أن قال: ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم) اهـ.
وقال ابن خلكان في "وفيات الأعيان" (3/274): فإذا كان أول صَفَر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة، وقعد في كل قبة جوق من الأغاني، وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات (طبقات القباب) حتى رتبوا فيها جوقاً. وتبطل معايش الناس في تلك المدة، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم... إلى أن قال: فإذا كان قبل يوم المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً عن الوصف وزَفَّهَا بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي، حتى يأتي بها إلى الميدان... إلى أن قال: فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة. اهـ.
فهذا مبدأ حدوث الإحتفال بمناسبة ذكرى المولد، حدث متأخراً ومقترناً باللهو والسرف وإضاعة الأموال والأوقات، وراء بدعة ما أنزل الله بها من سلطان. والذي يليق بالمسلم إنما هو إحياء السنن وإماتة البدع، وأن لا يَقْدم على عملٍ حتى يعلم حكم الله فيه.
هذا؛ وقد يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بِشُبَهٍ أوهى من بيت العنكبوت، ويمكن حصر هذه الشبه فيما يلي:
1 – دَعْوَاهُم أنَّ في ذلك تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب عن ذلك أنْ نقول: إنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته صلى الله عليه وسلم، وليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي، والإحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم؛ لأنه معصية. وأشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة – رضي الله عنهم -، كما قال عروة بن مسعود لقريش: (يا قوم! والله لقد وفدت على كِسْرَى وقَيْصَر والملوك، فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً r، والله ما يمدون النظر إليه تعظيماً له)، ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه.
2 – الإحتجاج بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان.
والجواب عن ذلك أن نقول: الحجة بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم. والثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن البدع عموماً، وهذا منها. وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة، وإن كثروا: "وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ" الأنعام: 116، مع أنه لا يزال - بحمد الله - في كل عَصر مَن يُنكر هذه البدعة ويبين بطلانها، فلا حُجَّة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق.
فَمِمَّن أنكر الإحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم"، والإمام الشاطبي في "الاعتصام"، وابن الحاج في "المدخل"، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي ألَّف في إنكاره كتاباً مستقلاً، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه "صيانة الإنسان"، والسيد محمد رشيد رضا ألَّف فيه رسالة مستقلة، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ألف فيه رسالة مستقلة، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات الجرائد والمجلات، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة.
3 - يقولون: إن في إقامة المولد إحياء لذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب عن ذلك أن نقول: إحياء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يكون بما شرعه الله من ذكره في الأذان والإقامة والخُطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه وقراءة سنته واتباع ما جاء به؛ وهذا شيء مستمر يتكرر في اليوم والليلة دائماً، لا في السنة مرة.
4 - قد يقولون: الإحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه مَلِكٌ عادل عالم، قصد به التقرب إلى الله!
والجواب عن ذلك أن نقول: البدعة لا تُقبل من أي أحد كان، وحسْن القصد لا يسوِّغ العمل السيئ، وكونه عالماً وعادلاً لا يقتضي عصمته.
5 - قولهم: إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة؛ لأنه يُنَبِئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم!
ويجاب عن ذلك بأن يقال: ليس في البدع شيء حسن؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "،ويقال أيضاً: لماذا تأخر القيام بهذا الشكر - على زعمكم- إلى آخر القرن السادس، فَلَم يَقُم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وهم أشدّ محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر؛ فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكراً لله – عز وجل –؟ حاشا وكلاَّ.
6 – قد يقولون: إن الاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم ينبئ عن محبته؛ فهو مظهر من مظاهرها وإظهار محبته صلى الله عليه وسلم مشروع!
والجواب أن نقول: لا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين - بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه -، ولكن ليس معنى ذلك أن نبتدع في ذلك شيئاً لم يشرعه لنا، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه؛ فإن ذلك من أعظم مظاهر محبته، كما قيل:
لو كان حبك صادقاً لأطعته * * إن المحـبّ لمــن يحــب مطيع
فمحبته صلى الله عليه وسلم تقتضي إحياء سنته والعضّ عليها بالنواجذ ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة، ومن ذلك الإحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع. وحسن النية لا يبيح الإبتداع في الدين؛ فإن الدين مبني على أصلين: الإخلاص، والمتابعة، قال - تعالى -: " بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ " البقرة: 112، فإسلام الوجه هو الإخلاص لله، والإحسان هو المتابعة للرسول وإصابة السنة.
وخلاصة القول: أن الإحتفال بذكرى المولد النبوي بأنواعه واختلاف أشكاله بدعة منكرة يجب على المسلمين منعها ومنع غيرها من البدع، والإشتغال بإحياء السنن والتمسك بها، ولا يُغْتر بمن يروِّج هذه البدعة ويدافع عنها؛ فإن هذا الصنف يكون اهتمامهم بإحياء البدع أكثر من اهتمامهم بإحياء السنن، بل ربما لا يهتمون بالسنن أصلاً، ومن كان هذا شأنه فلا يجوز تقليده والإقتداء به، وإن كان هذا الصنف هم أكثر الناس، وإنما يقتدي بمن سار على نهج السنة من السلف الصالح وأتباعهم وإن كانوا قليلاً؛ فالحق لا يُعْرف بالرجال، وإنما يُعْرف الرجال بالحق.
قال صلى الله عليه وسلم:" فإنه مَن يَعِش مِنكُم فَسَيَرَى اختلافاً كثيراً؛ فَعَليكُم بِسُنتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين مِن بَعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " ، فبين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف بمن نقتدي عند الإختلاف، كما بين أن كل ما خالف السنة من الأقوال والأفعال فهو بدعة وكل بدعة ضلالة.
وإذا عرضنا الإحتفال بالمولد النبوي لم نَجِد له أصلاً في سنة رسول الله ولا في سنة خلفائه الراشدين، إذاً فهو من محدثات الأمور ومن البدع المضلة، وهذا الأصل الذي تضمنه هذا الحديث قد دَلَّ عليه قوله – تعالى -: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً " النساء: 59. والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إلى سنته بعد وفاته؛ فالكتاب والسنة هما المرجع عند التنازع، فأين في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي؟
فالواجب على من يفعل ذلك أو يستحسنه أن يتوب إلى الله - تعالى - منه ومن غيره من البدع؛ فهذا هو شأن المؤمن الذي ينشد الحق، وأما من عاند وكابر بعد قيام الحجة فإنما حسابه عند ربه.
هذا؛ ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يرزقنا التمسك بكتابه وسنة رسوله إلى يوم نلقاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
أرجو من كل مسلم نشر هذا الموضوع
.....والسلام عليكم ..........