"مفاتيح الغيب" المعروف بـ"التفسير الكبير" أو "تفسير الرازي" من أجل كتب التفسير بالرأي المقبول الذي لا تعارض بينه وبين المأثور، ومن أعظمها وأوسعها وأغزرها مادة، يحظى بشهرة واسعة بين العلماء؛ لأنه يمتاز عن غيره من كتب التفسير بالأبحاث الفيَّاضة الواسعة في نواحٍ شتَّى من العلم.
مؤلفه هو الإمام الجليل أبو عبد الله، محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التيمي البكري، الطبري الأصل، الرازي المولد، يلقب بـ "فخر الدين" و"الرازي"، ولد في مدينة "الري" سنة 544هـ- تقع شرقي مدينة طهران بإيران حاليا- والنسبة إليها "رازيّ"، أخذ العلم عن والده ضياء الدين عمر الذي كان من كبار علماء الري، وعن الكمال السمعاني، والمجد الجيلي، وكثير من العلماء الذين عاصرهم ولقيهم.. وتوفي (رحمه الله) سنة 606 هـ بالريّ.
أدوات الرازي
عاش فخر الرازي في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، وكانت هذه الفترة حرجة في حياة المسلمين السياسية والاجتماعية والعلمية والعقدية؛ فالوهن قد بلغ مداه بالدولة العباسية، وكانت أخبار الحروب الصليبية في الشام، وأخبار التتر في المشرق تقض مضاجع المسلمين، وتحرك وجدانهم، وتثير مشاعرهم، وكانت الخلافات المذهبية والعقائدية شديدة.
أما العلوم الطبيعية والإلهية والهندسية والموسيقية... فكانت في هذه الفترة لم تزل في أوْجها.. وفي ظل هذه البيئة نشأ الرازي وعاش؛ مما كان له أبلغ الأثر في موسوعيته التي يظهر صداها في أعماله وخاصة تفسيره.
صَنَّف في علوم كثيرة وأبدع التأليف وأجاد فيما صنَّف، فمن مصنفاته: كتاب التفسير الذي نحن بصدده، و"الطريقة العلائية" و"شرح الوجيز للغزالي" في الفقه، و"المحصول" في الأصول، و"تأسيس التقديس"، و"أسرار التنزيل وأنوار التأويل" في علم الكلام، و"شرح الإشارات"، و"لباب الإشارات"، و"الملخص في الفلسفة" في الرد على الفلاسفة... وغير هذا كثير من مصنفاته، التي يتجلى فيها علمه الواسع الغزير.
العلماء وتفسير الرازي
يحظى تفسير "مفاتيح الغيب" بشهرة واسعة بين العلماء؛ نظرًا لأن مؤلِّفه كان فريد عصره، ومتكلم زمانه، جمع كثيراً من العلوم ونبغ فيها، فكان إماماً فى التفسير والكلام، والعلوم العقلية، وعلوم اللغة، وكان يعظ باللسان العربي والعجمي، فأكسبه ذلك شهرة عظيمة، فكان العلماء يقصدونه من البلاد، ويشدون إليه الرحال من مختلف الأقطار؛ ومن ثم جاء تفسيره عاكسًا لهذه الثقافة الموسوعية والقدرات الإبداعية.
يقول الصفدي في الوافي بالوفيات: "أتى في كتابه بما لم يسبق إليه؛ لأنه يذكر المسألة ويفتح باب تقسيمها، وقسمة فروع ذلك التقسيم، ويستدل بأدلة السبر والتقسيم، فلا يشذ فيه عن تلك المسألة فرع له بها علاقة، فانضبطت له القواعد، وانحصرت المسائل".
ويقول صاحب كشف الظنون: "إن الإمام فخر الدين الرازي ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، وخرج من شيء إلى شيء، حتى يقضى الناظر العجب"، ويقول ابن خلكان: "إنه - أي الرازي - جمع فيه كل غريب وغريبة".
ومن العلماء من عاب على الإمام الرازي هذا الاستطراد فقال الإمام أبو حيان صاحب البحر المحيط: "جمع الإمام الرازي في تفسيره أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير؛ ولذلك قال بعض العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير!"، وهذا الكلام بلا شك من باب المبالغات غير المقبولة؛ فرغم أن الرازي كان مولعاً بكثرة الاستنباطات والاستطرادات في تفسيره، فإنه لم يذكر شيئا من المستنبط أو المستطرَد إليه إلا وله صلة باللفظ القرآني.
هل أتم الرازي تفسيره الكبير؟
أغلب العلماء القدامى يرون أن الإمام الرازي لم يكمل هذا الكتاب، وأن شهاب الدين الخوبي الدمشقي (639هـ) أكمل قسمًا منه، ثم جاء بعده نجم الدين القمولي (727هـ) فأتمه، دون أن يتميز الأصل من التكملة.. وشايعهم على ذلك الدكتور محمد حسين الذهبي (رحمه الله) في كتابه "التفسير والمفسرون"، مستدلا ببعض العبارات التي تدل على أن شخصاً آخر اشترك في كتابته، مقرا في الوقت نفسه بأن القارئ فى هذا التفسير، لا يكاد يلحظ فيه تفاوتاً في المنهج والمسلك، بل يجرى الكتاب من أوله إلى آخره على نمط واحد، وطريقة واحدة، تجعل الناظر فيه لا يستطيع أن يُميِّز بين الأصل والتكملة
والحق أن الكتاب كله للإمام الرازي، ومن يعايش الكتاب يلاحظ ما لاحظه الدكتور الذهبي من وحدة المنهج والمسلك، وأنه لم يتدخل أحد من تلامذته في إكماله، وأن ما ذكر من بعض التعليقات لا تعدو كونها تعليقات جانبية، ولا تصل إلى أن تكون إكمالاً للكتاب، وعلى هذا الرأي استقر الدكتور علي محمد حسن العماريز، والدكتور محسن عبدالحميد، والدكتور صلاح الخالدي وغيرهم، مستدلين بأن ما ورد فيه من عبارات تدل على أن شخصاً آخر اشترك في كتابته ليس إلا تعليقات متناثرة من بعض تلامذته، أضيفت إلى المتن، أو كتبت في الحاشية، ودخلت في المتن في أثناء استنساخه، خاصة أن الرازي كثيراً ما كان يكتب في نهاية كل سورة تاريخ انتهائه من تفسيرها، ولم يكن يفسر السور بحسب ترتيبها في المصحف؛ ولذلك تجده يفسر سورة متأخرة في الترتيب قبل المتقدمة.
معالم منهج الرازي في التفسير
كان للإمام الرازي أثر كبير وبصمات على من جاء بعده من المفسرين، وخاصة المفسرين بالرأي المحمود؛ ومن أهم معالم منهجه في التفسير:
- الاستطراد، وتصريف الأقوال، والإكثار من الجدل والنقاش، مستثمرا موسوعيته في العلوم الشرعية والكونية والرياضية والمذاهب الفلسفية... فنراه يذكر المسألة ويفتح باب تقسيمها، وقسمة فروع ذلك التقسيم، ويستدل بأدلة السبر والتقسيم، فلا يشذ فيه عن تلك المسألة فرع له بها علاقة.
- لا يكاد يمر بآية من آيات الأحكام إلا ويذكر مذاهب الفقهاء فيها، مع ترويجه لمذهب الشافعي - الذي يُقلِّدُه - بالأدلة والبراهين.
- يستطرد في ذكر المسائل الأصولية، والمسائل النحوية، والبلاغية، وإن كان لا يتوسع في ذلك توسعه في مسائل العلوم الكونية والرياضية.
- يهتم ببيان المناسبات بين الآيات بعضها مع بعض، وبين السور بعضها مع بعض، وهو لا يكتفي بذكر مناسبة واحدة؛ بل كثيرا ما يذكر أكثر من مناسبة.
- يعرض الرازي للقراءات المختلفة، وقد يخرج المعاني على كل قراءة، وربما أعرب الآيات بحسب تلك القراءات، وقد يحتج للقراءة بما يقوله النحويون.
- لا يَدَع فرصة تَمر دون أن يَعْرض لمذهب المعتزلة بذكر أقوالهم والرَّد عليها منطلقا من عقيدة أهل السنة.
- لا يعتمد كثيرا على الحديث في التفسير حتى في الجدل الفقهي الذي تصدى به لأقوال الفقهاء، وربما يعود ذلك إلى تأثره برأي بعض النحاة في الاستشهاد بالحديث النبوي.
- كثيرا ما يستشهد بالشعر للاستدلالات اللغوية أو البلاغة أو مناسبة أدبية أو دينية.
- التفسير غني بأسباب النزول مسندة كانت أو غير مسندة، وفي الغالب يسندها إلى صحابي أو تابعي.
أهم المراجع:
· محمد بن عمر الرازي- تفسير الفخر الرازي (مفاتيح الغيب)- دار الفكر -ط 1981
· محمد حسين الذهبي- التفسير والمفسرون-مكتبة وهبة – مصر-د.ت
· صلاح الدين خليل الصفدي- الوافي بالوفيات- تحقيق أحمد الأرناؤوط وتزكي مصطفى- دار إحياء التراث-ط1-2000
· محمد حسين الذهبي -الإسرائيليات في التفسير والحديث-مكتبة وهبة - مصر - ط3 - 1406هـ
· عبد الرحمن بن يحيى-بحث حول تفسير الفخر الرازي-غير مطبوع (ملتقى أهل الحديث على الإنترنت)